الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وَفِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ فِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ: «الْأَوَّاهُ الْخَاشِعُ الْمُتَضَرِّعُ» وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيهِ رِوَايَاتٌ مِنْهَا: أَنَّهُ الْمُؤْمِنُ أَوِ الْمُوقِنُ بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ، وَالْحَلِيمُ: الَّذِي لَا يَسْتَفِزُّهُ الْغَضَبُ وَلَا يَعْبَثُ بِهِ الطَّيْشُ، وَلَا يَسْتَخِفُّهُ الْجَهْلُ أَوْ هَوَى النَّفْسِ، وَمِنْ لَوَازِمِهِ الصَّبْرُ وَالثَّبَاتُ وَالصَّفْحُ وَالتَّأَنِّي فِي الْأُمُورِ، وَاتِّقَاءِ الْعَجَلَةِ فِي كُلٍّ مِنَ الرَّغَبِ وَالرَّهَبِ، وَذَهَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ إِلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ تَعْلِيلٌ لِمَا كَانَ مِنِ اسْتِغْفَارِهِ لِأَبِيهِ، قَالَ بَعْدَ تَفْسِيرِ الْأَوَّاهِ بِالَّذِي يُكْثِرُ التَّأَوُّهَ: وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ لِفَرْطِ تَرَحُّمِهِ وَرِقَّتِهِ وَحِلْمِهِ كَانَ يَتَعَطَّفُ عَلَى أَبِيهِ الْكَافِرِ وَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَعَ شَكَاسَتِهِ عَلَيْهِ وَقَوْلِهِ: {لَأَرْجُمَنَّكَ}. اهـ.{وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ} أَيْ وَمَا كَانَ مِنْ شَأْنِ اللهِ تَعَالَى فِي حِلْمِهِ وَرَحْمَتِهِ وَلَا مِنْ سُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ الَّتِي هِيَ مَظْهَرُ عَدْلِهِ وَحِكْمَتِهِ أَنْ يَصِفَ قَوْمًا بِالضَّلَالِ، وَيُجْرِيَ عَلَيْهِمْ أَحْكَامَهُ بِالذَّمِّ وَالْعِقَابِ، بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ، وَشَرَحَ صُدُورَهُمْ بِالْإِسْلَامِ، بِمُجَرَّدِ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ صَدَرَ عَنْهُمْ بِخَطَأِ الِاجْتِهَادِ.{حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، بَيَانًا جَلِيًّا وَاضِحًا لَا شُبْهَةَ فِيهِ وَلَا إِشْكَالَ {إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} فَهُوَ يَشْرَعُ لَهُمْ مِنَ الْأَحْكَامِ مَا تَكْمُلُ بِهِ فِطْرَتُهُمْ، وَيَسْتَقِيمُ بِهِ رَأْيُهُمْ وَفَهْمُهُمْ، فَيُبَيِّنُ لَهُمْ مُهِمَّاتِ الدِّينِ بِالنَّصِّ الْقَاطِعِ حَتَّى لَا يَضِلَّ فِيهِ اجْتِهَادُهُمْ بِأَهْوَاءِ نُفُوسِهِمْ، وَيَتْرُكُ لَهُمْ مَجَالًا لِلِاجْتِهَادِ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ مِنْ مَصَالِحِهِمْ، فَهُوَ لِهَذَا لَمْ يُؤَاخِذْ إِبْرَاهِيمَ فِي اسْتِغْفَارِهِ لِأَبِيهِ قَبْلَ أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ حَالُهُ، وَكَذَلِكَ لَا يُؤَاخِذُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِمَا سَبَقَ لَهُمْ مِنَ الِاسْتِغْفَارِ لِوَالِدِيهِمْ وَأُولِي الْقُرْبَى مِنْهُمْ قَبْلَ هَذَا التَّبْيِينِ لِحُكْمِ اللهِ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ مِنْ لَوَازِمِ الْإِيمَانِ، قَالَ مُجَاهِدٌ فِي تَفْسِيرِ الْجُمْلَةِ: بَيَانُ اللهِ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي الِاسْتِغْفَارِ لِلْمُشْرِكِينَ خَاصَّةً، وَفِي بَيَانِ طَاعَتِهِ وَمَعْصِيَتِهِ عَامَّةً، مَا فَعَلُوا أَوْ تَرَكُوا. اهـ.يَعْنِي أَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ وَإِنْ نَزَلَتْ فِي مَسْأَلَةِ اسْتِغْفَارِهِمْ لِلْمُشْرِكِينَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ حِينَ أَخَذُوا الْفِدَاءَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ الْأُسَارَى، قَالَ: لَمْ يَكُنْ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوهُ حَتَّى يُؤْذِنَ لَكُمْ. وَلَكِنْ مَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَ قَوْمًا بِذَنْبٍ أَذْنَبُوهُ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ، قَالَ: حَتَّى يَنْهَاهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ. اهـ.وَأَقُولُ: الْآيَةُ مُتَأَخِّرَةُ النُّزُولِ عَنْ غَزْوَةِ بَدْرٍ وَلَكِنَّهَا شَامِلَةٌ لِحُكْمِهَا فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ أَخْذَ الْفِدَاءِ مِنَ الْأَسْرَى هُوَ فِي مَعْنَى الِاسْتِغْفَارِ لِلْمُشْرِكِينَ هُنَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ خِلَافُ مَا يَقْتَضِيهِ شَأْنُ النُّبُوَّةِ وَالْإِيمَانِ لِقوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} (8: 67) فَهَذَا نَفْيٌ لِلشَّأْنِ كَنَفْيِ الِاسْتِغْفَارِ هُنَا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى هُنَالِكَ بَعْدَ عِتَابِهِمُ الشَّدِيدِ: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (8: 68) فَابْنُ عَبَّاسٍ يُفَسِّرُ هَذَا الْكِتَابَ بِحُكْمِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِأَنَّهُ لَا يَحْكُمُ بِضَلَالِ قَوْمٍ فِي شَيْءٍ فَيُعَاقِبُهُمْ عَلَيْهِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ بَيَانًا وَاضِحًا تَامًّا لَا مَجَالَ مَعَهُ لِلِاجْتِهَادِ الَّذِي يَكُونُ عُذْرًا فِي الْمُخَالَفَةِ، سَوَاءٌ كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ وَقْتَئِذٍ أَمْ لَا. فَهَذَا حُكْمُ اللهِ تَعَالَى.أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعُودٍ رضي الله عنه كَانَ يَخْطُبُ أَصْحَابَهُ كُلَّ عَشِيَّةِ خَمِيسٍ ثُمَّ يَقُولُ: فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَغْدُوَ عَالِمًا أَوْ مُتَعَلِّمًا فَلْيَفْعَلْ وَلَا يَغْدُو لِسِوَى ذَلِكَ، فَإِنَّ الْعَالِمَ وَالْمُتَعَلِّمَ شَرِيكَانِ فِي الْخَيْرِ. أَيُّهَا النَّاسُ: إِنِّي وَاللهِ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تُؤْخَذُوا بِمَا لَمْ يُبَيَّنْ لَكُمْ وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} فَقَدْ بَيَّنَ لَكُمْ مَا تَتَّقُونَ.وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا قَاعِدَةٌ هِيَ أَنَّ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ الْعَامَّةَ الَّتِي عَلَيْهَا مَدَارُ الْجَزَاءِ فِي الْآخِرَةِ وَيُكَلَّفُ الْعَمَلَ بِهَا كُلُّ مَنْ بَلَغَتْهُ إِنْ كَانَتْ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّخْصِيَّةِ الَّتِي خُوطِبَ بِهَا أَفْرَادُ الْأُمَّةِ كُلُّهُمْ، وَيُنَفِّذُهَا أَئِمَّتُهَا وَأُمَرَاؤُهَا فِيهَا، هِيَ مَا كَانَتْ قَطْعِيَّةَ الدَّلَالَةِ بِبَيَانٍ مِنَ اللهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ لَا حُجَّةَ مَعَهُ لِأَحَدٍ فِي تَرْكِهِ، وَأَنَّ مَا عَدَاهَا مَنُوطٌ بِالِاجْتِهَادِ، فَمَنْ ظَهَرَ لَهُ مِنْ نَصٍّ ظَنِّيِّ الدَّلَالَةِ حُكْمٌ وَاعْتَقَدَ أَنَّهُ مُرَادُ اللهِ مِنَ الْآيَةِ وَجَبَ عَلَيْهِ اتِّبَاعُهُ، وَمَنْ لَا فَلَا، كَمَا وَقَعَ عِنْدَ نُزُولِ آيَةِ الْبَقَرَةِ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ إِذْ فَهِمَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ مِنْ قوله تعالى: {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} (2: 219) تَحْرِيمَهُمَا فَتَرَكَ، وَبَقِيَ مَنْ لَمْ يَفْهَمْ هَذَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حَتَّى بَيَّنَ اللهُ تَحْرِيمَهَا مَعَ الْمَيْسِرِ بَيَانًا قَطْعِيًّا بِآيَاتِ الْمَائِدَةِ. وَأَصْلُ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْفَرَائِضَ وَالتَّحْرِيمَ الدِّينِيَّ لَا يَثْبُتَانِ إِلَّا بِالنَّصِّ الْقَطْعِيِّ أَوْ بِنَصِّ الْقُرْآنِ الْقَطْعِيِّ بَلْ هَذَا مَا كَانَ عَلَيْهِ عُلَمَاءُ السَّلَفِ. وَتَقَدَّمَ تَحْقِيقُ الْمَسْأَلَةِ (فِي ص323 وَمَا بَعْدَهَا ج10 ط الْهَيْئَةِ) وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ بَعْضِ الْمُبْتَدِعَةِ بِالْمُؤَاخَذَةِ عَلَى مَا يَجِبُ بِحُكْمِ الْعَقْلِ كَالصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ، صَرَّحَ بِهِ مُفَسِّرُهُمُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَاسْتَثْنَاهُ مِنْ حُكْمِ الْآيَةِ بِأَنَّهُ غَيْرُ مَوْقُوفٍ عَلَى التَّوْقِيفِ نَعَمْ إِنَّ حُسْنَهُ يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ. وَلَكِنَّ التَّكْلِيفَ الَّذِي يُبْنَى عَلَيْهِ جَزَاءُ الْآخِرَةِ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِالشَّرْعِ، كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَةُ وَغَيْرُهَا. وَقَدْ أَمَرَ اللهُ بِالصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ وَأَوْجَبَهُمَا وَحَرَّمَ الْكَذِبَ وَالْخِيَانَةَ، كَمَا بَيَّنَ كُلَّ مَا أَرَادَ جَعْلَهُ دِينًا لِلنَّاسِ. وَقَدْ أَخْبَرَنَا رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّ مَا سَكَتَ عَنْهُ فَلَمْ يُبَيِّنْهُ لَنَا فَهُوَ عَفْوٌ مِنْهُ تَعَالَى غَيْرُ نِسْيَانٍ، فَلَيْسَ لَنَا أَنْ نَسْأَلَ عَنْهُ وَلَا أَنْ نَضَعَ لَهُ أَحْكَامًا بِآرَاءِ عُقُولِنَا. وَقَدْ بَسَطْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي تَفْسِيرِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا} (5: 101) إِلَخْ رَاجِعْ ص107 وَمَا بَعْدَهَا ج7 ط الْهَيْئَةِ مَعَ الْفَصْلِ الْمُلْحَقِ بِهِ ص117 ط الْهَيْئَةِ إِلَخْ.{إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} لَا شَرِيكَ لَهُ فِي خَلْقِهِمَا وَلَا فِي تَدْبِيرِ شُئُونِهِمَا وَلَا فِي التَّشْرِيعِ الدِّينِيِّ لِلْمُكَلَّفِينَ فِيهِمَا {يُحْيِي وَيُمِيتُ} أَيْ يَهَبُ الْحَيَاةَ الْحَيَوَانِيَّةَ وَالْحَيَاةَ الْمَعْنَوِيَّةَ الرُّوحِيَّةَ بِمَحْضِ قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَمُقْتَضَى سُنَنِهِ فِي التَّكْوِينِ وَالْهِدَايَةِ الْفِعْلِيَّةِ وَيُمِيتُ مَا شَاءَ مِنَ الْأَبْدَانِ بِانْقِضَاءِ آجَالِهَا الْمُقَدَّرَةِ فِي عِلْمِهِ، وَمِنَ الْأَنْفُسِ بِنُكُوبِهَا عَنْ صِرَاطِ هِدَايَتِهِ {وَمَا لَكَمَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} أَيْ وَلَيْسَ لَكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ أَحَدٌ غَيْرُ اللهِ يَتَوَلَّى أَمْرَكُمْ، وَلَا نَصِيرٌ يَنْصُرُكُمْ عَلَى عَدُوِّكُمْ، فَلَا تَحِيدُوا عَنْ هِدَايَتِهِ فِيمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ مِنَ الِاسْتِغْفَارِ لِأُولِي الْقُرْبَى الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ الْوِلَايَةِ وَالنُّصْرَةِ مِنْ عَصَبَاتِكُمْ فِي الْأَنْسَابِ، وَلَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ.لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ.هَذِهِ الْآيَاتُ تَتِمَّةُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ مَوْضُوعِ تَوْبَةِ الْمُتَخَلِّفِينَ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، أُخِّرَتْ عَلَى سُنَّةِ الْقُرْآنِ فِي تَفْرِيقِ الْآيَاتِ فِي الْمَوْضُوعِ الْوَاحِدِ لِأَنَّهُ أَدْنَى أَلَّا يَسْأَمَ التَّالِي لَهَا فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا وَأَقْوَى فِي تَجْدِيدِ الذِّكْرَى وَالتَّأْثِيرِ فِي النَّفْسِ كَمَا بَيَّنَّاهُ مِرَارًا، وَهُوَ مُنَاسِبٌ لِمَا قَبْلَهُ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الِاسْتِغْفَارِ لِلْمُشْرِكِينَ وَهُوَ مِمَّا يُتَابُ مِنْهُ.{لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} هَذَا خَبَرٌ مُؤَكَّدٌ بِلَامِ الْقَسَمِ عَلَى حَرْفِ التَّحْقِيقِ، بَيَّنَ بِهِ تَعَالَى فَضْلَ عَطْفِهِ عَلَى نَبِيِّهِ وَأَصْحَابِهِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَتَجَاوُزِهِ عَنْ هَفَوَاتِهِمْ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ وَفِي غَيْرِهَا، لِاسْتِغْرَاقِهَا فِي حَسَنَاتِهِمُ الْكَثِيرَةِ عَلَى كَوْنِهِمْ لَا يُصِرُّونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا، وَإِنَّمَا كَانَتْ هَفَوَاتُهُمْ هَذِهِ مُقْتَضَى الطِّبَاعِ الْبَشَرِيَّةِ وَاجْتِهَادِ الرَّأْيِ فِيمَا لَمْ يُبَيِّنْهُ اللهُ تَعَالَى بَيَانًا قَطْعِيًّا يُعَدُّ مُخَالِفُهُ عَاصِيًا. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ (104) أَنَّ لِلتَّوْبَةِ دَرَجَاتٍ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ طَبَقَاتِ التَّوَّابِينَ الرَّجَّاعِينَ إِلَى اللهِ مِنْ كُلِّ إِعْرَاضٍ عَنْهُ، وَتَوْبَتُهُ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ لَهَا مَعْنَيَانِ: عَطْفُهُ عَلَيْهِمْ وَهَذَا أَعْلَاهُمَا، وَتَوْفِيقُهُمْ لِلتَّوْبَةِ وَقَبُولُهَا مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا يَتُوبُونَ مِنْ ذَنْبٍ، وَمَا كُلُّ ذَنْبٍ مَعْصِيَةٌ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَدْ فَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ التَّوْبَةَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هُنَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سِيَاقِ هَذِهِ الْغَزْوَةِ: {عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} (9: 43)؟ الْآيَةَ وَحَقَّقْنَا فِي تَفْسِيرِهَا مَسْأَلَةَ ذُنُوبِ الْأَنْبِيَاءِ وَكَوْنِهَا مِنَ الِاجْتِهَادِ الَّذِي لَمْ يُقِرَّهُمُ اللهُ عَلَيْهِ لِأَنَّ غَيْرَهُ خَيْرٌ مِنْهُ وَأَمَّا الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- وَهُمْ خُلَّصُ الْمُؤْمِنِينَ {الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} فَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ ذَنْبُهُ التَّثَاقُلَ فِي الْخُرُوجِ حَتَّى وَرَدَ الْأَمْرُ الْحَتْمُ فِيهِ وَالتَّوْبِيخُ عَلَى التَّثَاقُلِ إِلَى الْأَرْضِ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ ذَنْبُهُمُ السَّمَاعَ لِلْمُنَافِقِينَ فِيمَا كَانُوا يَبْغُونَ مِنْ فِتْنَةِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْقُوَّةِ وَالِاسْتِدْرَاكِ، وَبِالْفِعْلِ.فَأَمَّا الْعُسْرَةُ فَهِيَ الشِّدَّةُ وَالضِّيقُ. وَكَانَتْ عُسْرَةً فِي الزَّادِ إِذْ كَانَتْ عِنْدَ انْتِهَاءِ فَصْلِ الصَّيْفِ الَّذِي نَفِدَتْ فِيهِ مُؤْنَتُهُمْ، وَأَوَّلَ فَصْلِ الْخَرِيفِ الَّذِي بَدَأَ فِيهِ إِرْطَابُ الْمَوْسِمِ الْجَدِيدِ وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُ شَيْءٍ مِنْهُ، فَكَانَ يَكْتَفِي الْوَاحِدُ مِنْهُمْ أَوِ الِاثْنَانِ بِالتَّمْرَةِ الْوَاحِدَةِ مِنَ التَّمْرِ الْقَدِيمِ وَمِنْهُ الْمَمْدُودُ وَالْيَابِسُ، وَقَدْ تَزَوَّدَ بَعْضُهُمْ أَيْضًا بِالشَّعِيرِ الْمُسَوَّسِ وَالْإِهَالَةِ الزَّنِخَةِ، وَعُسْرَةً فِي الْمَاءِ حَتَّى كَانُوا يَنْحَرُونَ الْبَعِيرَ عَلَى قِلَّةِ الرَّوَاحِلِ لِيَعْتَصِرُوا الْفَرْثَ الَّذِي فِي كَرِشِهِ وَيَبِلُّوا بِهِ أَلْسِنَتَهُمْ، وَعُسْرَةً فِي الظَّهْرِ حَتَّى كَانَ الْعَشَرَةُ يَعْتَقِبُونَ بَعِيرًا وَاحِدًا، وَعُسْرَةً فِي الزَّمَنِ إِذْ كَانَ فِي حِمَارَةِ الْقَيْظِ وَشِدَّةِ الْحَرِّ؛ وَلَعَلَّ التَّعْبِيرَ بِسَاعَةِ الْعُسْرَةِ لِلتَّذْكِيرِ بِذَلِكَ الْوَقْتِ الْعَصِيبِ.قال جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ: عُسْرَةُ الظُّهْرِ وَعُسْرَةُ الزَّادِ وَعُسْرَةُ الْمَاءِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِعُمَرَ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- حَدِّثْنَا مِنْ شَأْنِ سَاعَةِ الْعُسْرَةِ، فَقَالَ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى تَبُوكَ فِي قَيْظٍ شَدِيدٍ فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا فَأَصَابَنَا فِيهِ عَطَشٌ شَدِيدٌ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّ رِقَابَنَا سَتُقْطَعُ حَتَّى إِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيَنْحَرُ بَعِيرَهُ فَيَعْصِرُ فَرْثَهُ فَيَشْرَبُهُ وَيَجْعَلُ مَا بَقِيَ عَلَى كَبِدِهِ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ اللهَ قَدْ عَوَّدَكَ فِي الدُّعَاءِ خَيْرًا فَادْعُ لَنَا، فَرَفَعَ يَدَيْهِ فَلَمْ يُرْجِعْهُمَا حَتَّى قَالَتِ السَّمَاءُ، فَأَهْطَلَتْ ثُمَّ سَكَبَتْ فَمَلَئُوا مَا مَعَهُمْ، ثُمَّ ذَهَبْنَا نَنْظُرُ فَلَمْ نَجِدْهَا جَاوَزَتِ الْعَسْكَرَ، أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِهِمَا وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ.{مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيعُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ} أَيِ اتَّبَعُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا قَرُبَ أَنْ يَزِيغَ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ عَنْ صِرَاطِ الْإِسْلَامِ، بِعِصْيَانِ الرَّسُولِ حِينَ أَمَرَ بِالنَّفِيرِ الْعَامِّ، إِذْ تَثَاقَلَ بَعْضُهُمْ عَنِ النَّفَرِ وَوَبَّخَهُمُ اللهُ تَعَالَى فِي الْآيَاتِ 38، 39، 40 أَوِ الْمَعْنَى أَنَّهُ تَابَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كَافَّةً مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ بَعْضُهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ وَالْمُرَادُ بِهِمُ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا بِالْفِعْلِ مِنْهُمْ لِغَيْرِ عِلَّةِ النِّفَاقِ، وَهُمُ الَّذِينَ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا وَاعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ تَائِبِينَ فَقَبِلَ اللهُ تَوْبَتَهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَالَ هُنَا فِيهِمْ: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنَ الْعَطْفِ بِثُمَّ، وَأَمَّا عَلَى التَّوْجِيهِ الْآخَرِ فَهُوَ تَأْكِيدٌ لِمَا فِي أَوَّلِ الْآيَةِ مِنَ التَّوْبَةِ عَلَى الْجَمِيعِ {إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} وَهَذَا تَعْلِيلٌ لِقَبُولِ تَوْبَتِهِمْ فَالرَّأْفَةُ الْعِنَايَةُ بِالضَّعِيفِ وَالرِّفْقُ بِهِ وَالْعَطْفُ عَلَيْهِ. وَالرَّحْمَةُ أَعَمُّ وَأَوْسَعُ، وَتَقَدَّمَ تَحْقِيقُ مَعْنَاهَا فِي تَفْسِيرِ الْفَاتِحَةِ. قَرَأَ {كَادَ يَزِيغُ} بِالْيَاءِ التَّحْتَانِيَّةِ حَمْزَةُ وَحَفْصٌ، وَقَرَأَهَا الْبَاقُونَ {تَزِيغُ} بِالْفَوْقَانِيَّةِ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ فِيهِمَا إِلَّا أَنَّ فِي هَذِهِ مِنِ احْتِمَالِ الْإِعْرَابِ النَّحْوِيِّ مَا لَيْسَ فِي تِلْكَ. اهـ.
وقوله: وقوله:
|